بين الكاف والنون

 كل ما نراه حولنا، من السماوات الشاسعة إلى أصغر ذرات الوجود، قائم على سر عظيم لا يراه إلا من أمعن قلبه في التأمل: سر "الكاف والنون". ذلك الأمر الذي إذا أراده الله تعالى قال له: "كن" فيكون. إنها كلمة واحدة، بل حرفان فقط، يختصران قصة الخلق والوجود، ويفسران عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

بين الكاف والنون عالم كامل من القدرة الإلهية التي لا يحدها شيء. حين يسمع المؤمن هذه الحقيقة، يدرك أن ما يعجز عنه الناس، وما تراه العقول بعيدًا، وما يظنه البشر مستحيلًا، كله ممكن عند الله بكلمة واحدة. فلا زمان يقيده ولا مكان يحده، فإذا قال: كن، كان الأمر كما شاء، في لحظة لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها الأوهام.

حين تتأمل في حياتك، وتجد أن أمنياتك مؤجلة، وأحلامك بعيدة، وأبواب الأرض موصدة، فتذكر أن بينك وبين تحقق ما ترجوه كاف ونون فقط. ما يراه الناس طريقًا طويلًا قد يكون عند الله طرفة عين. وما تراه معجزًا قد يكون عند الله واقعًا، بمجرد أن يقول له: كن.

إن هذه الحقيقة تغرس في قلب المؤمن طمأنينة عميقة. فإذا ضاقت به الدنيا لم ييأس، وإذا حاصرته الهموم لم ينهزم، لأنه يعلم أن كل شيء خاضع لأمر الله، وأن كل المستحيلات في ميزان القدرة الإلهية ممكنة. فربك إذا أراد شيئًا، لا يحتاج إلى جهد ولا زمن ولا وسائط، وإنما يقول له كن فيكون.

بين الكاف والنون دعوة للإيمان المطلق، والثقة الكاملة، والتسليم التام لله. لأنك حين تدرك أن أمرك كله معلق بأمره سبحانه، يزول الخوف، وتخفت الوساوس، وتذوب الشكوك. فما دامت حياتك كلها قائمة على كلمة، فإن التعلق برب هذه الكلمة هو النجاة، وهو اليقين الذي لا يتزعزع.

قد تسأل نفسك: لماذا لم يتحقق ما دعوت الله به حتى الآن؟ والجواب أن بين الكاف والنون حكمة. فقد يمنع الله عنك ما تظنه خيرًا لأنه يعلم أنه شر، وقد يؤخر عنك ما استعجلت لأنه يعلم أن وقته لم يحن بعد. وكل ذلك لطف منه ورحمة بك، حتى وإن لم تفهمه الآن.

إن المؤمن حين يتذكر أن وجوده كله بدأ بكلمة، وأن مصيره كله مرهون بكلمة، يعيش بين خوف ورجاء، بين خشية من تقصيره، ورجاء في رحمة ربه. ويزداد يقينه أن الله لا يعجزه شيء، وأنه إذا أراد لك حياة، ورزقًا، وسعادة، ونورًا، قال له: كن فيكون.

فلتسكن روحك إذًا، ولتطمئن نفسك، ولتضعف أمام عظمة الله كل مخاوفك، فما بينك وبين الفرج إلا أن يقول الله له: كن. وما بينك وبين حلمك إلا أن يأذن له: كن. وما بينك وبين الجنة إلا أن يرضى عنك ربك ويقول: كن.

ذلك هو السر الأعظم الذي يحكم الوجود كله: بين الكاف والنون.

أحدث أقدم